مفهوم الشخص

مفهوم الشخص

يشير مفهوم الشخص إلى الذات الإنسانية بما هي ذات واعية ومفكرة من جهة، وذات حرة ومسؤولة من جهة أخرى. إذا كان الكثير من الفلاسفة قد ركزوا على جانب الفكر والوعي باعتبارهما يمثلان جوهر الشخص البشري، فإن هناك أبعاد أخرى تميز هذا الكائن؛ بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية وغيرها. فللشخص صفات جسدية متغيرة، كما أن له حياة نفسية متقلبة، ثم إنه حيوان سياسي وأخلاقي، محكوم بروابط وعلاقات مع الغير.

 

أمام كل هذه المحددات نجد أن مفهوم الشخص يثير الكثير من الإشكالات، من أهمها ما يلي:

 

- ما الذي يتغير في الشخص؟ وما الذي يبقى ثابتا؟ أين تتمثل هوية الشخص؟ هل هي هوية واحدة أم متعددة؟

 

- ما الذي يميز الشخص ويمنحه قيمة وتميز عن باقي الحيوانات والأشياء؟ وما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟

 

- بأي معنى يمكن النظر إلى الشخص كذات حرة ومسؤولة؟ ألا يمكن القول بأن حريته مشروطة بأوضاع اجتماعية؟

 

І- الشخص والهوية:

 

*إشكال المحور:

 

ما الذي يكون الهوية الشخصية؟ وعلى ماذا تتأسس هوية  الشخص؟

 

1- الموقف العقلاني/ ديكارت: الفكر كأساس لهوية الشخص.

 

لقد استخدم ديكارت الشك المنهجي من أجل الوصول إلى الحقيقة؛ هكذا فقد شك في كل شيء لكنه مع ذلك لم يستطع أن يشك في أنه يشك، وما دام الشك نوع من التفكير فقد انتهى أنه يفكر. من هنا فقد تساءل قائلا: أي شيء أنا؟ وأجاب: أنا شيء مفكر. وهذا ما يجعل هوية الشخص عند أبي الفلسفة الحديثة تتحدد على مستوى الفكر؛ فالشخص هو ذات مفكرة وواعية. ويتجلى هذا الوعي في القدرة على الشك والفهم والتصور والنفي والإثبات والتخيل والإحساس…الخ. وتعتبر هذه الأفعال خصائص مكونة لهوية الشخص بحيث لا يمكن تصوره بدونها، فهي إذن ثابتة لدى الكائن البشري وتميزه عن باقي الكائنات.

 

وإذا كانت أفعال الأنا هاته مختلفة ومتنوعة، فإنها مع ذلك تصدر عن نفس الجوهر المفكر، والذي يبقى في هوية وتطابق مع نفسه في كل الظروف والأحوال، وبذلك فهو يمثل هوية الشخص وجوهره وما هو ثابت فيه.

 

وقد استبعد ديكارت الخصائص المرتبطة بالجسم باعتبارها خصائص عرضية وليست من طبيعة نفسه، واعتبر أنه يمكن أن يوجد حتى ولو افترضنا أنه لا بدن له. فالأنا على وجه التدقيق ذهن أو روح أو فكر أو عقل.

 

هكذا فالفكر هو أساس هوية الشخص ووجوده؛ فأنا أفكر إذن أنا موجود، أنا موجود مادمت أفكر وإذا انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود.

 

2- الموقف التجريبي/ لوك وهيوم: تحديد هوية الشخص انطلاقا من الإحساس والذاكرة.

 

الشخص عند جون لوك كائن واع ومفكر، يتأمل ذاته ويدرك أنها مطابقة لنفسها في كل لحظة تمارس فيها التفكير والتعقل. من هنا فهوية الشخص عنده لا تخرج عن إطار الفكر كما هو الحال عند ديكارت، إلا أنه يختلف عن هذا الأخير في أنه لا يمكن تصور أفكار فطرية بمعزل عن الحواس؛ ذلك أن العقل صفحة بيضاء والحواس هي التي تمده بالمعارف والأفكار.هكذا يربط  لوك بين الفكر والإحساس، وهذا الربط هو الذي جعله يستنتج أن الإحساس هو ما يكون الهوية الشخصية للإنسان.

 

كما يربط من جهة أخرى بين الذاكرة وهوية الشخص؛ إذ كلما امتد الوعي في الذاكرة إلا واتسعت معه هوية الشخص وتقوت. وهذا يعني أن الوعي والذاكرة هما مكونان أساسيان لهوية الشخص. .

 

وإذا كان لوك قد اعتبر بأن الوعي يرافق دوما فكرنا، مما يجعل الوعي مكونا أساسيا من مكونات الهوية الشخصية ويجعل  كل واحد منا يطلق على نفسه اسم الأنا ويظل مطابقا لذاته باستمرار، فإنه لم يحسم ما إذا كانت الأفعال الصادرة عن الوعي ترتبط بجوهر واحد أم بعدة جواهر.

 

وسيأتي التجريبي دفيد هيوم ليختلف صراحة مع ديكارت حول هذه النقطة؛ فاعتبر خلافا لهذا الأخير بأنه لا وجود لجوهر واحد اسمه النفس هو الذي يكون هوية الشخص وتصدر عنه أفعال الوعي المختلفة، بل إن الوعي يتجزأ إلى مختلف العمليات التي تصدر عن إدراكاتنا الحسية، والتي تتعاقب في الزمان والمكان بكيفية مكثفة ومسترسلة لا تعرف التوقف بحيث تمنحنا انطباعا وهميا بأن لنا جوهرا ثابتا اسمه النفس أو الأنا، في حين أن الأمر لا يعدو أن يكون مجموعة متعددة ومتغيرة من الإحساسات الظاهرة أو الباطنة، والتي تكون هويتنا ووعينا، وبتوقف تلك الإدراكات الحسية في النوم او الموت مثلا فإنه يتوقف معها الوعي نهائيا ولا نستطيع في هذه الحالة الحديث عن النفس أو الأنا المفكر كجوهر ثابت ومكون لهوية الشخص كما زعم ديكارت.

 

هكذا يجعل دفيد هيوم، كما هو الشأن بالنسبة لمواطنه جون لوك، الإدراكات الحسية أساسا لكل الأفكار التي  يحملها وعينا وذاكرتنا والتي يمكن أن تشكل ما يمكن أن نسميه بهويتنا الشخصية.

 

3- موقف شوبنهاور:  الإرادة كأساس لهوية الشخص .

 

خلافا للفلسفات التي تحدد هوية الشخص انطلاقا من الوعي والذاكرة، يرى شوبنهاور أن هوية الشخص تتحدد بالإرادة، إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغير كلية.

 

هكذا وبالرغم من التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، فإنه يبقى فيه شيء لا يتغير، وهو الذي يمثل نواة وجوده الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، لأن أحداث الماضي يعتريها النسيان، والذاكرة معرضة للتلف بسبب الشيخوخة أو المرض، بل يتمثل في الإرادة التي هي أساس هوية الشخص ونواة وجوده بحيث تظل ثابتة وفي هوية مع نفسها، وهي التي تمثل ذاتنا الحقيقية والمحركة لوعينا وذاتنا العارفة.

 

ІІ- الشخص بوصفه قيمة:

 

*إشكال المحور:

 

ما الذي يؤسس البعد القيمي للشخص؟ ومن أين يكتسب قيمته المطلقة؟

 

1-موقف كانط : ما يمنح للشخص قيمة هو كونه ذات عاقلة وأخلاقية.

 

يعتبر كانط بأن الشخص هو الذات التي يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها. من هنا فالشخص هو كائن واع، وهو ما جعله يكتسب قيمة مطلقة في حين لا تتمتع الموجودات غير العاقلة إلا بقيمة نسبية. كما يعتبر الشخص غاية في ذاته، بحيث لا يمكن التعامل معه كمجرد وسيلة. وهذا يعني أنه يمتلك قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.

 

ولكي يحافظ الشخص على احترامه كذات حرة وأخلاقية، يجب عليه أن يتصرف وفقا للأمر الأخلاقي المطلق بحيث يعامل الإنسانية في سلوكه كغاية وليس كوسيلة. هكذا فحرية الشخص عند كانط مقترنة بالتزامه بالأمر الأخلاقي الذي هو قانون عملي كلي ومطلق، يشكل مبدأ موضوعيا للإرادة الإنسانية، ويعامل الطبيعة الإنسانية كغاية في ذاتها.

 

وإذا كان كانط يجعل الخاصية الأخلاقية هي المحدد الرئيسي لقيمة الشخص، وهي ما يجلب له الاحترام من طرف الغير ومعاملتهم له كغاية، فإن هناك كائنات بشرية قد تعوزها هذه الخاصية، وبالتالي ستفتقد من هذا المنظور الكانطي إلى صفة الشخص ويصبح من الجائز معاملتها كمجرد وسائل ومنحها قيمة لا تختلف عن قيمة الحيوانات أو الأشياء المادية.

 

هذه المسألة هي التي جعلت تصور كانط لقيمة الشخص يعرف بعض الصعوبات والمفارقات التي انتبه إليها أحد الفلاسفة الأمريكيين المعاصرين، هو طوم ريغان Tom Regan) ).

 

2-موقف طوم ريغان: ما يمنح للشخص قيمة هو كونه ذات حية تستشعر حياتها.

 

يرى طوم ريغان أن كانط يحدد قيمة الشخص في كونه ذات عاقلة وأخلاقية، وهذا ما يؤدي إلى نفي قيمة الشخص عن كثير من البشر مثل البويضة المخصبة حديثا، والمرضى الذين دخلوا حالة الغيبوبة الدائمة، والأطفال إلى سن معينة، وكل الكائنات التي تفتقد القدرات العقلية التي تمكنها من أن تكون كائنات أخلاقية.

 

من هنا يجوز تبعا للمنظور الكانطي معاملة هذه الكائنات كمجرد وسائل، ونفي الاحترام والكرامة وكل مقومات الشخص عنها. وهذا ما يؤدي إلى مفارقة أساسية تتمثل في كون كانط ، وهو المعروف بمثاليته الأخلاقية، يجسد موقفا لاأخلاقيا تجاه هذه الأنواع من الكائنات التي ذكرناها. ولهذا وجب حسب طوم ريغان استبدال المعيار الأخلاقي الكانطي المحدد لقيمة الشخص بمعيار آخر أشمل وأوسع؛ يتمثل في أن ما يمنح للكائن البشري قيمة مطلقة هو كونه « ذات تستشعر حياتها». فالإنسان يختلف عن الحيوانات والأشياء الطبيعية في كونه يضيف خاصية الوعي إلى الحياة؛ فهو يعي ما يعتمل في حياته من مشاعر وأفكار ورغبات، كما يستشعر حياته الماضية ويتطلع إلى الاستمتاع بالنعيم وتحقيق ما هو أفضل بالنسبة إليه. وهذه العناصر هي ما يمنحه قيمة أصلية ويفرض علينا احترامه والاعتراف له بحقوقه المشروعة.

 

فالقيمة الأصلية للشخص إذن لا تتوقف على نظرة الغير إليه أو حكمه عليه انطلاقا من معايير أخلاقية أو غيرها، بل هي تتحدد حسب طوم ريغان انطلاقا من كونه « ذات تستشعر حياتها» ويحيى حياة يمكن أن تتحول للأفضل أو للأسوأ بالنسبة إليه. وهذا المعيار الأخير يجعل كل الكائنات البشرية متساوية وتفرض علينا الاعتراف لها بحقوقها ومعاملتها باحترام.

 

ІІІ- الشخص بين الضرورة والحرية:

 

*إشكال المحور:

 

ما علاقة الشخص، بوصفه ذات حرة، بما يحمله من صفات وما يصدر عنه من أفعال؟ هل هي أفعال صادرة عن إرادة حرة   أم محكومة بإشراطات؟

 

1- القول بخضوع الشخص لمجموعة من الإكراهات والمحددات الحتمية .

 

أ-موقف اسبينوزا: أفعال الإنسان محكومة بضرورات طبيعية.

 

يرى اسبينوزا أن الناس يعتقدون أنهم أحرارا في أفعالهم وأنهم يتصرفون وفق إرادتهم واختيارهم، لا سيما أنهم يكونون على وعي بما يقومون به، إلا أن الحقيقة بخلاف ذلك؛ فالناس يجهلون الأسباب الحقيقية لأفعالهم ورغباتهم والتي تحددها بشكل طبيعي وحتمي.

 

إن التجربة تبين حسب اسبينوزا أن الناس لا يستطيعون التحكم في شهواتهم بما فيه الكفاية؛ ذلك أنهم غالبا ما يدركون الأفضل ومع ذلك يفعلون الأسوء وينتابهم الندم من جراء ذلك. وفي هذا السياق يقدم اسبينوزا أمثلة تتعلق برغبة الرضيع في حليب الأم، وبحالة الغضب التي تنتاب الشاب وهو يريد الانتقام، وبرغبة الجبان في الفرار، لكي يبين لنا من خلالها أن هؤلاء وغيرهم من الناس يظنون أنهم أحرارا أثناء قيامهم بتلك الأفعال وغيرها، إلا أن واقع الأمر عكس ذلك فهناك أسباب خفية تقف وراء أفعالهم تلك وتوجهها.

 

هكذا فمن الوهم الاعتقاد، حسب اسبينوزا، بأن الإنسان حر نظرا لجهله بالأسباب التي تحرك أفعاله وأقواله، وهي أسباب لا تخرج عن إطار الحتمية الطبيعية التي تخضع لها جميع الأشياء.

 

ب-موقف العلوم الإنسانية: الشخص خاضع لحتميات مختلفة.

 

لقد اعتبر علم النفس الفرويدي بأن نفسية الإنسان تتحدد بشكل حاسم في مرحلة الطفولة، كما أن سلوكاته تقف وراءها نزعات لاشعورية توجه حياته دون أن يشعر. هكذا يحل اللاوعي محل الوعي، ويبدو الشخص خاضعا لنزعاته التدميرية العدوانية التي يختزنها “الهو”.

 

ومن جهة أخرى بينت الدراسات الاجتماعية والأنثروبلوجية أن الكثير من أحاسيس الإنسان وأفكاره وسلوكاته مفروضة عليه من خلال التنشئة الاجتماعية. فالشخص لا يعدو أن يكون نتاجا لتفاعل بنيات وقواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه الإكراه من مختلف الزوايا؛ سواء تعلق الأمر بالبنيات النفسية أو اللغوية أوالمادية والاقتصادية. من هنا فقد انتهت العلوم الإنسانية إلى التأكيد على أن وعي الشخص بذاته يشوبه الوهم والغرور، وتحدثت عن موته واختفائه وسط العديد من المحددات التي تشرطه وتحاصره.

 

وإذا كان الفيلسوف اسبينوزا قد تحدث عن خضوع الشخص لحتمية طبيعية، وأكدت العلوم الإنسانية عن خضوعه لمحددات نفسية واجتماعية وغيرها، فهل يعني ذلك أن هناك غياب تام لحرية الشخص في بناء نفسه وتقرير مصيره؟

 

2- القول بحرية الشخص في بناء نفسه.

 

أ-موقف سارتر: الشخص مشروع حرية تتحقق بشكل دائم.

 

يرى سارتر أن الإنسان كشخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي “كون الوجود سابق على الماهية”، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد.إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.

 

إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل.فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية.

 

ب-موقف مونيي:  الشخص حر في تقرير مصيره.

 

يرى مونيي أن الشخص ليس موضوعا، وبالتالي لا يمكن التعرف عليه من الخارج والتعامل معه كمادة جامدة. وهو ينتقد هنا ضمنيا موقف العلوم الإنسانية التي تطمح إلى السيطرة على الإنسان ودراسته كباقي أشياء الطبيعة. يرفض مونيي هذا الموقف الأخير ويعتبر أن الشخص وحدة كلية تتكون من عدة أجزاء وجوانب، كما أن فهمه والتعرف عليه لا يمكن أن يكون إلا من الداخل ومما هو روحي ويتميز به عن باقي الأشياء.

 

ومن ناحية أخرى يعتبر مونيي أن للشخص قيمة مطلقة ولا يمكن تسخيره من قبل الجماعة كوسيلة، بل هو غاية في ذاته. ولذلك فهو يدعو المجتمع إلى ضرورة توفير الظروف والوسائل الملائمة لكي يحقق الأشخاص ميولاتهم ويقرروا مصيرهم بمحض حرياتهم. وفي هذا السياق يقول مونيي: « إن الإنسان هو الذي يقرر مصيره ولا يمكن لأي شخص آخر، فردا كان أو جماعة، أن يقوم مقامه في ذلك».